أقرّ بداية أنني تردّدت كثيرا في تناول ومناقشة ما طرحته الدكتورة وفاء الرشيد، من آراء جريئة، طي مقالها الموسوم بـ«هل نجرؤ على أن نجدد الفكر الديني؟»، «عكاظ» العدد (19112)، ويعود سبب ترددي إلى عدم قدرتي على تحديد آراء وأفكار الكاتبة الخاصة، ومنقولاتها من المفكر الجزائري الحاج دواق، فثمة تداخل مربك بينهما، لم تفلح كثرة الأقواس المستعملة من قبل الكاتبة في فك الارتباط بينهما، كون بعض الأقواس تُفتح لتضمين جملة، يفترض أنها من كلام «دواق»، ولكنها لا تغلق إيذاناً بانتهاء المنقول؛ بل يفتح قوس داخل القوس الأول بشكل جعل من عملية الفرز بين «الرشيد» و«دواق» في المقال عصيا عليَّ على وجه التحديد..
والحال هكذا؛ فإني أجد نفسي مضطرا للتعامل مع الأفكار الواردة في المقال بوصفها من إنتاج الكاتبين، فمن الواضح أن الدكتورة وفاء تتبنى ما طرحه المفكر «دواق»، إلى حد التماهي الحاجب لها دون وضعه في مسبار النقد والمناقشة والتمحيص، ولو أنها فعلت ذلك، لوجدت في ما طرحه ثغرات كبيرة، مرت من تحت «غربال» عرضه العصابي الديماغوجي، المتكئ على فرضيات خاطئة - برأيي -، والمستترة خلف لغة تعميمية غير خليق بالعلماء والمفكرين التعاطي معها، بخاصة في مثل هذه القضايا الكبيرة التي تتصل بالفكر ومخرجاته..
إن المقال في جملته - المنقول منه والمُعلّق عليه بالموافقة من الكاتبة – يحمّل الفكر القديم ورموزه وزر «التخلّف الحضاري» الذي يعيشه العقل العربي والمسلم اليوم، إلى غاية أن يصيب بـ«رشاشه» أحد الأئمة العظام في أمتنا، ويبدو هذا في افتتاحية المقال، بما نصه:
[ماذا أقول لكم دون أن يخرجني البعض من الملة؟ كيف أجرؤ أن أدخل وأناقش موضوعاً ملحاً لا نستطيع أن نسميه بغير أسماء؟ كيف أسأل ذلك العقل، العقل الذي «لا يزال يتكئ على فكر الشافعي وغير الشافعي في القرن الحادي والعشرين، عقلٌ يعيش أزمة نوعية خطيرة لا يجب السكوت عنها». هذه كانت سطور المفكر الجزائري الحاج دواق، في حلقة نقاش فككت حقيقة الحال.. كان مدخل الحاج دواق لسرد فكرته أن «الشافعي مثلاً الذي ينتمي إلى شرطية تاريخية محدودة بزمن وأحوال حاوطته، وهي شرطية القرن التاسع للميلاد»، وليس القرن الحادي والعشرين! «الشافعي الذي بفكر ناسه ووفق زمانه ووعيه وأدواته الاجتهادية المحدودة بنى متناً على متنٍ في ذاك العصر، فلماذا نحن اليوم لا نبني متننا على متن؟».]..
فإذا اعتبرنا أن ما بين الأقواس هو كلام «دواق» الذي تعاضده فيها الدكتورة «وفاء»، فالسؤال لكليهما يرد محمولاً على علامات استفهام كبيرة:
* ما هي ماهية هذا الخطر الماحق والمحدق الذي يتربص بمن يتكئ «على فكر الشافعي وغير الشافعي في القرن الحادي والعشرين»؟
* ما هي ماهية هذه الـ«أزمة النوعية الخطيرة»، التي تستوجب عدم «السكوت عنها»؟
* هل لعاقل قرأ سيرة ومنجز الإمام الشافعي بوسعه أن يقول بـ«منتهى المجانية» أن «وعيه وأدواته الاجتهادية» كانت «محدودة»؟
* من أين استمد «دواق» جرأته، التي توافقه عليها «وفاء» في الزعم بأن التشبث بمتعلقات التعبد قديما، موجبة للقطيعة مع الحاضر، في سياق المجتزأ من المقال الذي يقول: «هل الحي الحاضر الآن الذي يستنجد بالسابقين باستمرار، ويطمئن لعقلهم، ولا يطيق أن ينشئ قولاً على قولٍ، ويسرف في سرد نصوص السابقين، ولا يستطيع أن ينشئ متناً على متنٍ، يليق بأن يعيش في زمن النانو؟ أليس العقل الإنساني حياً ومتجدداً؟»..
* وماذا في فكر الإمام الشافعي، وغيره من الأئمة الفضلاء السابقين ما يحرم الدخول أو يمنع الدخول إلى «زمن النانو»..؟
* وأي علاقة تضاد هذه التي نشأت في عقل «دواق» و«وفاء» بين علوم الدين ومتطلبات البحث في علوم الحياة وتطورها.. وهل كان الدين والتدين خصما عليهما يوما من الأيام، وكل النصوص القرآنية والنبوية حاضة على ذلك بإعمار الحياة دون قيد، وتكفي الإشارة في ذلك لمحاً إلى قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، فإنه جواز المرور إلى ترتيب الحياة وفق مقدرات العقول، وبما يتوافق مع كل زمن ومحدثاته التطورية دون قيد، غير ما يتعلق بالقواعد الشرعية المعروفة في كلياتها المحددة، مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»..
أستطيع المضي على هذا النحو مفنداً كل سطر جاء في المقال، سواء في مجتزئه من قول المفكر الجزائري «دواق» أو من قول الكاتبة الدكتورة وفاء، فخلاصة ما خرجت به أن كليهما مارس ضرباً من «جلد الذات» بلغة تعميمية تفتقر إلى الأسس العلمية التي ينبغي أن يتحلى بها مفكر في «حلقة نقاش»، وكاتبة في «مقالة» تتجه بها إلى الجمهور، فيما يتصل بنقد الفكر، فقد كان حرياً بهما أن يستخرجا من «فكر الشافعي وغير الشافعي» – حسب قولهما – ما يصادم روح العصر، ويؤخر حركة تطور العقل العربي، ويفندا ذلك، كما كان واجباً عليهما أن يغادرا مربع «البحث عن الغائب» الذي ينجز لنا فروض «تجديد الفكر الديني»، ويقوما بهذه المهمة، فبظني أن مفكراً بجرأة نقد «الشافعي»، وكاتبة بجرأة طرح السؤال «هل نجرؤ على أن نجدد الفكر الديني؟» يملكان من العقل والحجاج المنطقي بما يؤسس لهذا التجديد، فمن الواضح أن «أدواتهما غير محدودة»، وإن كان لي من رجاء؛ فهو أن يخوضا غمار هذا المعترك بعيداً عن نوازع «جلد الذات» و«التياث الأفكار»، و«الاتكاء على الفرضيات الخاطئة»، والانحياز للغة الفكر المنضبط بعيداً عن لغة السياسة في تجييشها العصابي الديماغوجي، فإن ذلك أخلق وأجدر بـ«المفكرين».
الشافعي وباقي الأئمة لم يعطلوا العقل بل استخدموه وحلقوا به عالياً، نحن من عطلنا العقل وسيدنا النص وسجناه في سياج ضيق وعاقبنا من استخدمه.
* كاتب سعودي
والحال هكذا؛ فإني أجد نفسي مضطرا للتعامل مع الأفكار الواردة في المقال بوصفها من إنتاج الكاتبين، فمن الواضح أن الدكتورة وفاء تتبنى ما طرحه المفكر «دواق»، إلى حد التماهي الحاجب لها دون وضعه في مسبار النقد والمناقشة والتمحيص، ولو أنها فعلت ذلك، لوجدت في ما طرحه ثغرات كبيرة، مرت من تحت «غربال» عرضه العصابي الديماغوجي، المتكئ على فرضيات خاطئة - برأيي -، والمستترة خلف لغة تعميمية غير خليق بالعلماء والمفكرين التعاطي معها، بخاصة في مثل هذه القضايا الكبيرة التي تتصل بالفكر ومخرجاته..
إن المقال في جملته - المنقول منه والمُعلّق عليه بالموافقة من الكاتبة – يحمّل الفكر القديم ورموزه وزر «التخلّف الحضاري» الذي يعيشه العقل العربي والمسلم اليوم، إلى غاية أن يصيب بـ«رشاشه» أحد الأئمة العظام في أمتنا، ويبدو هذا في افتتاحية المقال، بما نصه:
[ماذا أقول لكم دون أن يخرجني البعض من الملة؟ كيف أجرؤ أن أدخل وأناقش موضوعاً ملحاً لا نستطيع أن نسميه بغير أسماء؟ كيف أسأل ذلك العقل، العقل الذي «لا يزال يتكئ على فكر الشافعي وغير الشافعي في القرن الحادي والعشرين، عقلٌ يعيش أزمة نوعية خطيرة لا يجب السكوت عنها». هذه كانت سطور المفكر الجزائري الحاج دواق، في حلقة نقاش فككت حقيقة الحال.. كان مدخل الحاج دواق لسرد فكرته أن «الشافعي مثلاً الذي ينتمي إلى شرطية تاريخية محدودة بزمن وأحوال حاوطته، وهي شرطية القرن التاسع للميلاد»، وليس القرن الحادي والعشرين! «الشافعي الذي بفكر ناسه ووفق زمانه ووعيه وأدواته الاجتهادية المحدودة بنى متناً على متنٍ في ذاك العصر، فلماذا نحن اليوم لا نبني متننا على متن؟».]..
فإذا اعتبرنا أن ما بين الأقواس هو كلام «دواق» الذي تعاضده فيها الدكتورة «وفاء»، فالسؤال لكليهما يرد محمولاً على علامات استفهام كبيرة:
* ما هي ماهية هذا الخطر الماحق والمحدق الذي يتربص بمن يتكئ «على فكر الشافعي وغير الشافعي في القرن الحادي والعشرين»؟
* ما هي ماهية هذه الـ«أزمة النوعية الخطيرة»، التي تستوجب عدم «السكوت عنها»؟
* هل لعاقل قرأ سيرة ومنجز الإمام الشافعي بوسعه أن يقول بـ«منتهى المجانية» أن «وعيه وأدواته الاجتهادية» كانت «محدودة»؟
* من أين استمد «دواق» جرأته، التي توافقه عليها «وفاء» في الزعم بأن التشبث بمتعلقات التعبد قديما، موجبة للقطيعة مع الحاضر، في سياق المجتزأ من المقال الذي يقول: «هل الحي الحاضر الآن الذي يستنجد بالسابقين باستمرار، ويطمئن لعقلهم، ولا يطيق أن ينشئ قولاً على قولٍ، ويسرف في سرد نصوص السابقين، ولا يستطيع أن ينشئ متناً على متنٍ، يليق بأن يعيش في زمن النانو؟ أليس العقل الإنساني حياً ومتجدداً؟»..
* وماذا في فكر الإمام الشافعي، وغيره من الأئمة الفضلاء السابقين ما يحرم الدخول أو يمنع الدخول إلى «زمن النانو»..؟
* وأي علاقة تضاد هذه التي نشأت في عقل «دواق» و«وفاء» بين علوم الدين ومتطلبات البحث في علوم الحياة وتطورها.. وهل كان الدين والتدين خصما عليهما يوما من الأيام، وكل النصوص القرآنية والنبوية حاضة على ذلك بإعمار الحياة دون قيد، وتكفي الإشارة في ذلك لمحاً إلى قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، فإنه جواز المرور إلى ترتيب الحياة وفق مقدرات العقول، وبما يتوافق مع كل زمن ومحدثاته التطورية دون قيد، غير ما يتعلق بالقواعد الشرعية المعروفة في كلياتها المحددة، مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»..
أستطيع المضي على هذا النحو مفنداً كل سطر جاء في المقال، سواء في مجتزئه من قول المفكر الجزائري «دواق» أو من قول الكاتبة الدكتورة وفاء، فخلاصة ما خرجت به أن كليهما مارس ضرباً من «جلد الذات» بلغة تعميمية تفتقر إلى الأسس العلمية التي ينبغي أن يتحلى بها مفكر في «حلقة نقاش»، وكاتبة في «مقالة» تتجه بها إلى الجمهور، فيما يتصل بنقد الفكر، فقد كان حرياً بهما أن يستخرجا من «فكر الشافعي وغير الشافعي» – حسب قولهما – ما يصادم روح العصر، ويؤخر حركة تطور العقل العربي، ويفندا ذلك، كما كان واجباً عليهما أن يغادرا مربع «البحث عن الغائب» الذي ينجز لنا فروض «تجديد الفكر الديني»، ويقوما بهذه المهمة، فبظني أن مفكراً بجرأة نقد «الشافعي»، وكاتبة بجرأة طرح السؤال «هل نجرؤ على أن نجدد الفكر الديني؟» يملكان من العقل والحجاج المنطقي بما يؤسس لهذا التجديد، فمن الواضح أن «أدواتهما غير محدودة»، وإن كان لي من رجاء؛ فهو أن يخوضا غمار هذا المعترك بعيداً عن نوازع «جلد الذات» و«التياث الأفكار»، و«الاتكاء على الفرضيات الخاطئة»، والانحياز للغة الفكر المنضبط بعيداً عن لغة السياسة في تجييشها العصابي الديماغوجي، فإن ذلك أخلق وأجدر بـ«المفكرين».
الشافعي وباقي الأئمة لم يعطلوا العقل بل استخدموه وحلقوا به عالياً، نحن من عطلنا العقل وسيدنا النص وسجناه في سياج ضيق وعاقبنا من استخدمه.
* كاتب سعودي